كيف يغيّر شاب مسلم اشتراكي قواعد اللعبة السياسية من قلب نيويورك؟ قصة زهران ممداني
مقدمة: زلزال سياسي في قلب العالم
في نيويورك، مركز العالم السياسي والإعلامي، حدث ما لم يكن في الحسبان. فاز شاب ثلاثيني من أصول مهاجرة، زهران ممداني، في سباق تشريعي حاسم، في حدث "غير مسبوق" قلب الطاولة على المؤسسة الأمريكية العريقة. المفارقة كانت صارخة: شاب يتبنى أفكارًا جريئة يتحدى منظومة سياسية راسخة وينتصر. لم يكن هذا مجرد فوز، بل كان رمزًا لتحول عميق. ارتفعت نسبة المشاركة في الانتخابات من 23% فقط في عام 2021 إلى 42%، وهي زيادة هائلة سببها المباشر هو الإثارة والحماسة التي أشعلها ممداني وحركته بين الناخبين، خاصة الشباب الذين رأوا فيه صوتًا يعبر عنهم. هذه الزيادة مذهلة في نظام انتخابي يعاني تاريخيًا من ضعف المشاركة، حيث تُجرى الانتخابات عمدًا في يوم ثلاثاء، وهو يوم عمل للطبقة الكادحة، مما يجعل مشاركتهم صعبة.
1. من هو زهران ممداني؟ الرجل الذي كسر القوالب
لفهم سر هذا الفوز المذهل، يجب أن نتعرف أولًا على الرجل الذي يقف خلفه. زهران ممداني ليس سياسيًا تقليديًا، بل هو نتاج قصة فريدة شكلت هويته الجريئة.
1.1. نشأة في بيئة مناهضة للاستعمار
نشأ ممداني في بيئة فكرية وسياسية غير عادية، ويمكن تلخيص العوامل التي شكلت وعيه في النقاط التالية:
* عائلة فريدة: والده أكاديمي مرموق متخصص في دراسات ما بعد الاستعمار، ومؤلف الكتاب الشهير "المسلم الصالح والمسلم الطالح"، الذي يحلل كيف سعت السياسات الأمريكية بعد 11 سبتمبر إلى التفريق بين المسلمين وإعادة تعريف هويتهم. والدته مخرجة أفلام هندوسية حائزة على جوائز عالمية، تتناول أفلامها قضايا الاستعمار والمشاكل الاجتماعية والسياسية.
* جذور مهاجرة: رحلته بدأت من ولادته في كمبالا بأوغندا، ثم انتقل مع عائلته إلى جنوب أفريقيا، قبل أن يستقر في الولايات المتحدة في سن السابعة. هذه التجربة منحته فهمًا عميقًا لقضايا الهجرة والهوية.
* بيئة متعددة الثقافات: نشأ في بيت كانت فيه النقاشات حول "التخلص من الاستعمار" (Anti-Colonialism) حاضرة باستمرار، سواء من خلال كتب والده أو أفلام والدته. هذه البيئة جعلته يتشبع بالأفكار المناهضة للهيمنة والظلم منذ صغره.
1.2. هوية جريئة: "أنا مسلم اشتراكي"
في السياسة الأمريكية، كانت كلمة "اشتراكي" قبل عشر سنوات فقط كفيلة بإنهاء المستقبل السياسي لأي شخص. لكن ممداني لم يتردد في وصف نفسه بأنه "مسلم اشتراكي". هذه الجرأة في تبني هوية مركبة وصادمة للمؤسسة كانت جزءًا أساسيًا من سر جاذبيته، خاصة بين جيل الشباب الذي سئم من السياسيين التقليديين وبات يبحث عن أصوات حقيقية تتحدى الوضع الراهن.
بعد التعرف على خلفيته الفريدة، استعد الآن لاستكشاف كيف واجهت حملته تحديات هائلة وحطمت محرمات سياسية راسخة.
2. الحملة المستحيلة: مواجهة التحديات وكسر المحرمات
لم يكن طريق ممداني إلى الفوز مفروشًا بالورود، بل كان معركة شرسة ضد قوى هائلة حاولت إيقافه بكل الوسائل.
2.1. في مواجهة "الماكينة الصهيونية"
واجهت حملة ممداني حربًا شعواء من أطراف متعددة، أبرزها:
* اللوبي الصهيوني: الذي شن حملات تشويه ضده، ووصفه بأنه معادٍ للسامية وضد اليهود، في محاولة لتنفير الناخبين منه.
* الأثرياء والطبقة الغنية: ضخت هذه الطبقة، بمن فيهم كبار المليارديرات في نيويورك، عشرات الملايين من الدولارات لدعم منافسه وإفشاله، خوفًا من أجندته الاشتراكية.
* المؤسسة السياسية: اصطفت شخصيات من الحزبين الديمقراطي والجمهوري ضده. حتى دونالد ترامب، الجمهوري، ألقى بكل ثقله لدعم منافس ممداني الديمقراطي، في تحالف غير مسبوق هدفه الوحيد هو منع وصول هذا الشاب إلى السلطة.
2.2. تحطيم السقف الزجاجي: مواقف غيّرت النقاش
أكثر ما ميز ممداني هو جرأته في كسر المحرمات السياسية، خاصة فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية. موقفه الأكثر جرأة تجلى في رده على سؤال حول رفضه وصف إسرائيل بـ "الدولة اليهودية":
"أنا أؤيد الدولة التي لا تفرق على أساس العرق والدين والجنس."
كانت هذه إجابة بسيطة لكنها عميقة، لم يجرؤ أي سياسي أمريكي على المستوى الوطني على قولها من قبل. بالإضافة إلى ذلك، تحدث ممداني بصراحة عن "حرب الإبادة الجماعية" في فلسطين، مستخدمًا مصطلحات كانت تعتبر من المحرمات المطلقة في الخطاب السياسي الأمريكي، مما غير طبيعة النقاش العام حول القضية.
بالرغم من هذه المعارضة الشرسة والمواقف الجريئة، بنى ممداني تحالفًا فريدًا قاده إلى النصر.
3. سر الفوز: جيش من المتطوعين وحلفاء غير متوقعين
كيف تمكن شاب بلا دعم من الأثرياء من هزيمة هذه القوى مجتمعة؟ السر يكمن في استراتيجيته التي اعتمدت على الناس وليس المال.
3.1. قوة جيل Z ووسائل التواصل الاجتماعي
استفاد ممداني بذكاء من التغير الهائل في الرأي العام لدى الشباب الأمريكي، خاصة بعد أحداث غزة. تشير الإحصائيات إلى أن 70% من جيل الشباب (Gen Z) أصبح ضد إسرائيل. بفضل شخصيته الكاريزمية ومهاراته العالية في استخدام وسائل التواصل الاجتماعي مثل "تيك توك"، نجح ممداني في تحويل هذا التعاطف الشبابي الواسع إلى قوة انتخابية حقيقية على الأرض.
3.2. الحلفاء المفاجئون: "يهود من أجل زهران"
لعبت مجموعات من اليهود غير الصهاينة دورًا حاسمًا في فوز ممداني، وهو ما شكل مفاجأة للكثيرين. يوضح الجدول التالي هذا التأثير بالأرقام:
الفئة الرقم والتأثير
أصوات اليهود لممداني ما بين 150,000 إلى 180,000 صوت من الناخبين اليهود.
فارق الأصوات النهائي حوالي 180,000 صوت.
الاستنتاج: يتضح من الجدول أن أصوات هذه المجموعات اليهودية، التي دعمت ممداني بقوة بسبب مواقفه الأخلاقية من فلسطين ورفضه للصهيونية، كانت عاملًا حاسمًا في تحقيق فوزه، حيث كان حجم دعمهم مساويًا تقريبًا لفارق الأصوات النهائي الذي حققه.
3.3. جيش شعبي من 100 ألف متطوع
بنى ممداني حملته على أساس شعبي (Grassroots) بالكامل. فبدلًا من الاعتماد على تبرعات الأثرياء، نجح في حشد جيش ضخم من المتطوعين أظهر زخمًا مذهلاً. بدأ بـ 50,000 متطوع ساعدوه على الفوز في الانتخابات التمهيدية للحزب، ثم ضاعف هذا العدد ليصل إلى 100,000 متطوع في الانتخابات العامة. قام هؤلاء بالتواصل المباشر مع الناخبين في بيوتهم وعبر الهواتف، وشكلوا قوة بشرية هائلة تفوقت على تأثير عشرات الملايين من الدولارات التي ضُخّت ضده.
هذا النصر التاريخي لم يغير نيويورك فحسب، بل أرسل موجات صادمة وصلت إلى واشنطن وتل أبيب.
4. دلالات الفوز: ماذا يعني انتصار ممداني للعالم؟
يحمل فوز ممداني دلالات عميقة تتجاوز حدود مدينة نيويورك، وقد تكون له تداعيات تاريخية على السياسة الأمريكية والعالمية.
4.1. التأثير داخل أمريكا: بداية تفكك "القبضة الصهيونية"
أهم دلالة لفوز ممداني هي أنه أثبت أنه يمكن تحدي اللوبي الصهيوني والنجاح. لقد كسر حاجز الخوف الذي كان يمنع السياسيين من انتقاد إسرائيل. هذا النصر قد يشجع سياسيين آخرين في مختلف أنحاء أمريكا على اتخاذ مواقف أكثر جرأة، وهو دليل ملموس على تحول كبير وجذري في قاعدة الحزب الديمقراطي، التي لم تعد تقبل الدعم غير المشروط لإسرائيل.
4.2. ردود الفعل في إسرائيل: الخوف من المستقبل
كانت ردود الفعل في إسرائيل مزيجًا من القلق والغضب، مما يعكس حجم الصدمة التي أحدثها هذا الفوز.
* قلق رسمي: صرح سفير الاحتلال داني دنون: "قلقون جدًا من فوز ممداني".
* غضب يميني: قال بن غفير إن انتخابه "وصمة عار".
* تحليل إعلامي: وصفت صحيفة يديعوت أحرونوت فوزه بأنه "تحدٍ لحق الدولة اليهودية في تقرير المصير".
الخوف الإسرائيلي ليس من ممداني كشخص، بل مما يمثله: كسر المحرمات، وتحويل النقاش العام، وإمكانية أن يصبح موقفه هو القاعدة وليس الاستثناء في المستقبل.
في النهاية، تحمل قصة زهران ممداني دروسًا ملهمة تتجاوز حدود السياسة والانتخابات.
خاتمة: أكثر من مجرد فوز انتخابي
قصة زهران ممداني هي دليل حي للشباب في كل مكان على أن التغيير ممكن، حتى في مواجهة أقوى الخصوم وأكثرهم نفوذًا. فوزه ليس مجرد انتصار في سباق انتخابي، بل هو انتصار لنموذج سياسي جديد:
* انتصار للتحالفات الجديدة: تحالف بين الشباب، والمهاجرين، واليهود غير الصهاينة، وكل من يبحث عن العدالة.
* انتصار لقوة الحشد الشعبي: أثبت أن جيشًا من المتطوعين المؤمنين بقضيتهم أقوى من أموال السياسة الفاسدة.
* انتصار للأفكار الجريئة: أثبت أن الجرأة في طرح الأفكار التي تتحدى الوضع الراهن يمكن أن تكون مفتاح النجاح.
يمثل هذا الفوز بداية مرحلة جديدة، قد تتغير فيها قواعد اللعبة السياسية ليس فقط في أمريكا، بل في العالم بأسره.
Login to reply